بداية نحن لسنا بصدد دفاع عن باطل، فحشانا أن نكون من زمرة من يدافعون عن الباطل، فالحق أحق أن يتبع. بل إننا أمام إقرار لواقع ودفاع عن حق وما سعينا إلا إلى نقل صورته وإنجازاته ورؤيته الحالية والمستقبلية والدعوة إلى المشاركة في تطويره بفعالية وحمل نظرية إيجابية لواقع إيجابي وليست نظرية نكران ونفي ما تم وما يتم إنجازه، ودعوة نحو تفعيل العقل والإبداع وليس إلى التقليد والمحاكاة وعشق لسياسة القطيع. وفي مستهل هذا المقال نريد أن نطرح سؤالًا، لماذا يصر البعض على طرح نظرية واحدة فقط في نظام الحكم، ثم يطرح البعض الآخر نقيضها. ولماذا لا ندعو باحثينا وباحثي العالم من حولنا إلى إلقاء الضوء على نماذج تطبيقية فعلية وتبنيها كنظرية في أنظمة الحكم المعاصرة، وأن ندعوهم إلى الخروج من دائرة البديهيات والأحكام المسبقة. فإذا كانت الحضارة البشرية قد استقرت على أن الديمقراطية هي "أسوأ طريقة لأفضل نظام حكم" بحيث بات من المسلّمات أن ما سواها يعد "أسوأ طريقة لأسوأ نظام حكم"، فإننا لا ننكر هذا عبر التجارب البشرية العديدة في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها، ولكن ما ندعو إليه هو التمعن في التفاصيل أكثر، وهل تطبق بنمط واحد وأساليب واحدة؟ وهل الديمقراطية نفسها كأسلوب لنظام الحكم ذات مدخل واحد أم أن لها أكثر من مدخل لتحقيق نفس النتائج؟ فالديمقراطية -أو غيرها من أنظمة الحكم المختلفة- ليست هدفاً في حد ذاتها، بل إنها وسيلة لتحقيق أهداف تدور حول الإنسان، وإن كانت هي نظام حكم الناس بالناس وللناس، فالناس والشعوب هي المصدر والهدف وهي السبب والنتيجة وهي الوسيلة والغاية، وتعد الغاية والنتيجة هي المردود الحقيقي من السعي لتطوير أنظمة الحكم المختلفة عبر التاريخ البشري، مع جعل الشعوب مصدراً أساسياً وعاملاً فعالاً ومشاركاً في تحقيق متطلباتهم، بحيث لا تتحول أنظمة الحكم إلى متحدث رسمي بديل عنهم. وتتمركز الأهداف والنتائج في رفع قيمة الفرد والمجتمع وضمان الحريات وإقامة العدل والمساواة وتفعيل مبدأ سيادة القانون ورفع مستوى المعيشة، وإلا فلا طائل من وراء ديمقراطيات لا ترفع مستوى الفرد ومعيشته ولا تسعى لإقامة دولة العدل والمساواة ورفع شأن سيادة القانون. ومن هذا المنطلق، ألم تستطع الدولة والنموذج الذي نحن بصدده "الإمارات" أن تكون فيدرالية من أنجح فيدراليات العالم جمعت تحتها سبع إمارات بمفهوم علمي وقانوني، ومن خلالها تمت إذابة كافة الفوارق والعوائق الجوهرية بين تلك الإمارات المتحدة سواء في عدد السكان أو المساحة الجغرافية والموقع وحتى في الموارد والتنمية الاقتصادية. وألم تؤمن الدولة بوضع عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب "دستوراً" يضع إطاراً واضحاً وظاهراً لنظام الحكم في البلاد ويضع في صلب مواده أن المساواة والعدالة الاجتماعية وتوفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين من دعامات المجتمع، والتعاضد والتراحم صلة وثيقة بينهم. وأن هذا الدستور يذكر صراحة أن حرية الرأي والتعبير عنه مكفول بالقول والكتابة، وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون. وهو دستور معاصر يحدد سلطات المؤسسات الاتحادية وسلطات الهيئات المحلية في كل إمارة مع مراعاة الاختلافات، ويؤكد وينص على استقلالية القضاء كإحدى أهم علامات الدول المتحضرة وهو ما نلمسه على الصعيد التطبيقي والعملي. ألم يعنِ هذا أننا أمام نموذج يعي تماماً مفهوم الدولة العصرية التي تسعى لخلق روابط مشتركة وأهداف مجتمعة بين مواطنينا وتحمي هذا الإطار وتعمل على تنميته ورفع سقف قدراته المادية والبشرية. ألم تتح الدولة لعناصرها المختلفة من القبائل والعائلات الكبيرة والوجهاء والكفاءات وغيرهم أن يجد كل طريقه في التعبير وتمثيل بلاده من خلال المجلس الوطني الاتحادي وتقديم الاقتراحات ومراجعة التشريعات والمشاركة في صياغة أسس الحكم. ألم يؤمن هذا المجلس بدور الشباب وقدراته وأنه أمل المستقبل فأشار إلى أن كل من أتم أو تجاوز خمسة وعشرين عاماً يمكنه مع شروط أخرى ميسرة أن يكون أحد أعضاء هذا المجلس. إن نموذج الدولة العصرية لم يطغَ على التقاليد القبلية النبيلة السائدة منذ القدم في الإمارات مثل التآخي والتراحم والمناصرة والنصح ولهذا يتميز مجتمع الإمارات بالتلاحم بين أبنائه وشيوخه وأكثر ما يتجلى هذا التلاحم بين الشعب والحكام في سهولة الوصول إلى الشيوخ وأولياء الأمر في دواوينهم سواء للسلام أو لحل المعضلات والتناصح، وهذا شيء فريد بحد ذاته لا نجده في أعرق الدول الديمقراطية. وإذا كنا أيضاً أمام نموذج استطاع أن يجذب أكثر من تسعة أضعاف سكانه الأصليين على أرضه لينعموا باستقرار وخيرات ومساواة وتطبيق لقانون وحماية لاستثمارات ورفع لمستوى معيشتهم ومعيشة ذويهم من بعدهم، بحيث أصبحنا واقعياً أمام قارة صغيرة يعيش بين ثناياها ما يقارب المائتي جنسية وكل يسبح بحمد ربه من دون التدخل من أحد، فلابد أن نعلم أننا أمام نموذج فريد ينبغي أن يدرس ويقلد ولا يقلد أحداً، وأن من الإجحاف أن نختزله فقط في أنه نموذج للتعدد الثقافي "مع نبل هذا الوصف". بل هو أوسع وأشمل وفريد في تلك الخاصية وخاصة أنه نموذج عربي مسلم محافظ. وأنه ينبغي أن ننظر فيما وراء هذا وهو كيف استطاع هذا المجتمع أن يحقق ذلك وفي فترات زمنية وجيزة. وكيف استطاع حكامه أن يستثمروا موارده لصالح مواطنيهم، فالموارد من دون إدارة جيدة ومساواة في توزيعها والاستفادة من عوائدها وتنمية القدرات البشرية والمادية لا يمكنها أن تحقق شيئاً، بل وعلى الأكثر من هذا قد تتحول إلى عبء على الأمم والشعوب والأمثلة كثيرة من دون أن نسمي دولًا ونذكر شعوباً. وإذا كنا أمام نموذج استطاع في أربعة عقود أن يحقق مستويات معيشة تضاهي كبريات دول العالم، التي وهبت موارد وخيرات على أرضها وعلى أرض غيرها، ونموذج استطاع المسؤولون فيه تحويله ليكون قبلة اقتصادية واجتماعية وثقافية لسائر بلدان وشعوب العالم، فإن هذا لم يحدث ولم يأت من فراغ، بل جاء من نظام حكم آمن بهذا وعمل من أجل تحقيقه ووظف قدرات شعبه وعمل من أجله. وإذا كنا أمام نموذج رأى في الفرد الوسيلة والغاية، والبداية والنهاية، وأنه الفلك الذي ندور حوله، وأن رفع قدراته ومستوى معيشته هدف يساور حكامه ومسؤوليه، وأن مستوى معيشته ومستوى قدراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية توضع نصب أعينهم بحيث بلغت حداً يمكن من خلاله مباراة ومنافسة أرسى أنظمة الحكم المختلفة في العالم وذلك من خلال طرح نظرية قديمة جديدة "ومتطورة " في الحكم، فإننا نكون أمام وضع لا يستحق الدراسة فقط، بل ويستحق التطبيق. فالدراسة والمناقشة العلمية الأمينة لمعرفة النموذج الإماراتي وخصائصه البشرية وتطوره عبر التاريخ التي ولدت نظام حكم هو في جوهره وحقيقته نظام ديمقراطي ليس فقط من الناحية النظرية التي تضع الوسيلة وتضل الغاية، وتضع نقاطاً للبداية وتضيع منها النهايات، بل إنه نموذج تطبيقي قد بلغ الأهداف الحقيقية على نحو يستحق وضعه كأي نظام حكم "جيد" في العلوم السياسية. ونحن بهذا لا ننكر الديمقراطية كأحد أنجح أساليب الحكم المعاصر في الدول الغربية وغيرها، ولكننا نؤكد أننا لسنا بعيدين عنها على النحو الذي يدعيه البعض، وأننا أصبنا مداخلها ونحقق أهدافها أكثر من العديد من متبني هذا النهج وآخرين من مدعي تطبيقه، وأصبحنا نموذجاً أخذ بكل ظواهر ومظاهر الديمقراطية وجنينا كل نتائجها. وعليه فإن هذه القراءة التي آثرنا أن تكون بسيطة بحيث تصل لقارئنا غير المتخصص وأن تكون رؤية تدعو إلى تدبر العقل قبل الحكم والإنصاف قبل الظلم، وهذا في صالح دولتنا وأيضاً في صالح العديد من الدول التي تسعى لتطبيق نظم حكم عادلة وآمنة ومستقرة وذات مردود إيجابي على مواطنيها ومواطني غيرها. وحفظ الله الإمارات حكومة وشعباً.